اسرار من حياة اشهر راقصة سياسية من الزمن الجميل .. تحية كاريوكا
تحية كاريوكا
لم تكن تحية كاريوكا مجرد فنانة كبيرة فقط، بل رحلة إنسانية طويلة «موشومة» بالفن والسياسة والجوع والترف والدموع والسعادة، وأخيرا بآلام الوحدة. رحلة عمرها الفني تجاوزت نصف القرن، بدأت بالرقص ووصلت إلى النجومية الحقيقية في السينما. إليكم صفحات من حياة أشهر راقصة عرفتها مصر.
بين الفرح والألم.. الابتسامة والدموع.. بين السعادة والحزن.. الضحك حتى البكاء والعكس، عاشت تحية كاريوكا الفنانة والانسانة، تبحث عن لحظة اطمئنان تزيل عنها مخاوف زمن شعرت فيه بالرهبة وهي لا تزال في العاشرة من عمرها. برحيلها، أطلقت آخر صيحة ضد مخاوفها وغربتها.. ورحلت تعانق صدقها ببساطتها..
رحلت الراقصة التي اعتزلت في قمة مجدها، رحلت الممثلة التي التزمت بالصدق، فغضب منها الكثيرون.. رحلت المرأة التي افتقدت الاخلاص، فاتهمت بكثرة الزواج، رحلت بعد أن انتصر عليها القهر وخلفها قعيدة صدقها، فرافقته حتى النهاية.
كان يمكن أن تبقى تحية كاريوكا مجرد راقصة مشهورة، وكان يمكن أيضا أن تدخل عالم السينما وتخرج منه عندما تعتزل الرقص، لولا موهبة فنية أصيلة موغلة في التلقائية مكنتها من الاستمرار والانطلاق والتأثير ليس في السينما فقط، إنما في المسرح أيضا - أصعب الفنون -حيث وظفته في أداء دور اجتماعي وسياسي في مرحلة من أخطر مراحل تاريخ مصر المعاصر.
تحية كاريوكا، من دون مبالغة، هي شجرة الفن المصرية المتعددة الفروع، أما الجذع فهو لسيدة مصرية ابنة بلد وأحيانا «معلمة» بالصوت والصورة، كان ظهورها في السينما ضرورة، فقبلها كانت السينما المصرية تفتقر لهذا النوع من الممثلات اللاتي يجسدن بصدق الصورة الشعبية للمرأة في حياتنا.
أدوار لا تنسى
ان ذاكرة السينما لا يمكن أن تنسى شخصيات مثل شفاعات في «شباب امرأة»، وشجرة الدر في «واإسلاماه»، وبسيمة عمران في «الطريق»، وأم العروسة، وعشرات الشخصيات الأخرى التي جسدتها شجرة الفن خلال تاريخها الطويل الذي امتزج بدور سياسي مبكر عكس وعيا بقضايا الوطن.
كما لا ينسى دورها في فيلم «سمارة» الذي جسدت فيه وبصدق شديد مع سبق الإصرار والترصد دور بنت البلد الدلوعة الشقية التي تسير ليلا وتلف جسدها بملاءة لف، تظهر تضاريس جسدها المتفجر بالأنوثة، ولم يفتها أن تزين ساقيها بخلخال من الذهب الخالص.
هذه المرأة بكل ما تمثله من غواية تمشي على قدمين، تستمع إلى صرخة يطلقها عسكري الدرك، الذي كان من معالم ليل القاهرة في أزمنة أكثر هدوءا وأمنا وجمالا من ليالينا الحالية، قائلا بصوت جهوري «مين هناك»؟ فتلتفت إليه وتعلن بصوت محرض ومتحد لكل منطق «سمارة»!
مشوار الألم والسعادة
كانت تحية كاريوكا شجرة وارفة الظلال والدفء، قطعت مشوارا طويلا مع الفن، ذاقت فيه ما ذاقت من الآلام، وعرفت فيه ما عرفت من الوان السعادة.. لكن الحقيقة أنها كانت، كما وصفها نجيب الريحاني، قارة مجهولة، حياتها كتاب من الأسرار والمواقف والدروس، وسلوكها في الحياة عبقري وجذاب.
شخصية تكاد تكون اسطورية تجمع بين الجرأة والقوة، وبين الضعف والاستكانة في الوقت نفسه.. صفحات وصفحات من التناقضات، وصفحات مضيئة من المواقف الإنسانية والوطنية ستظل تشهد لها وترفع اسمها عاليا.
كانت تحية كاريوكا، أو بدوية محمد علي أبو العلا الغيداني، مثل «شجرة الدر» في ذكائها وقوة شخصيتها، ومثل المعلمة «شفاعات» في جبروت انوثتها، ومثل «لعبة» في شقاوتها و«سمارة» في دلالها ورقتها، ومثل أي امرأة مغلوبة على أمرها أجهدها الزمن ونال من قواها.. لكنها في كل الحالات فنانة عظيمة وإنسانة تفيض بالحب والحنان، تغدق منهما على كل من حولها حتى لمن اساءوا إليها أو ظلموها.
كانت تحية كاريوكا ككتاب من المتناقضات، الحب والمعارك، الجوع والتخمة، الحرية والسجن، الصحة والمرض، الزواج والطلاق، الملاية اللف وفساتين السهرة، الاتيكيت وعدمه، الذكاء والسذاجة، الفول المدمس والمارون جلاسيه، السفح والقمة.. إنها سطور البطاقة الحياتية، ودفتر أحوال يصلح لمجموعة من الفنانات لا فنانة واحدة، وقد كانت تحية كاريوكا بالفعل هكذا.
هروب من العذاب
تحية كاريوكا الراقصة، هي تلك الفتاة التي هربت من بلدتها الإسماعيلية في 15 أغسطس عام 1935، يومها خرجت هاربة من أهلها، ليس معها شيء حتى ثمن تذكرة القطار الذي تبرع الناس بجمعه لها.. لكنها هي نفسها الراقصة التي استطاعت أن تنصف الرقص الشرقي من الابتذال ومصيدة «الارتيستات» التقليديات في أثناء الحرب العالمية الثانية، وجعلت منه فنا لا يقل عن غيره من الفنون.
ومن الرقص اكتسبت «بدوية» اسمها الفني، أو أعطاه لها الجمهور. فعندما فرت من العذاب الذي تجرعته مع أمها على يد أخوة وأخوات من ست زوجات لأبيها قبل أمها، لجأت إلى المطربتين سعاد ومحاسن اللتين سبق ان تعرفت عليهما عندما كانتا تعملان في الإسماعيلية. وكانت المفاجأة أن سعاد ومحاسن غير موجودتين، وعلى باب ملهى في حديقة الازبكية تعرفت على محمد الدبس عازف البيانو واستمع لقصتها، ورق قلبه لمأساتها، وأخذها من يدها وسافر بها إلى مدينة الاسكندرية، حيث توجد المطربتان سعاد ومحاسن.
بداية شهرة تحية كاريوكا
عاشت تحية كاريوكا مع سعاد ومحاسن، وكانت تذهب معهما يوميا حيث يعملان، وكثيرا ما تمنت أن ترقص. وذات يوم تغيبت الراقصة لولا سالم، وصعدت تحية كاريوكا لترقص انقاذا للموقف. وانتهت الرقصة والتهبت أكف الجميع بالتصفيق، وطالبوها بالرقص ثانية، وتكرر الاعجاب والتصفيق نفسهما!
وعلمت بديعة مصابني بهذا الخبر، فأرسلت تستدعيها للرقص بفرقتها براتب أربعة جنيهات في الشهر. وبعد أسابيع قليلة تبنتها، وعهدت بها إلى مدرب الرقص إيزاك ديكسون، ودفعت بها في أحد الأيام لتملأ الفراغ وتسلي الجمهور مع اسماعيل ياسين إلى أن يحين موعد الراقصة حورية محمد. ومع أنها كانت مرتبكة إلا أنها جذبت الناس إليها مما ضايق حورية محمد، وجعلها تمزق بدلة الرقص التي كانت بديعة مصابني أعطتها اياها.
ومرت الأيام، وإذا بها، وهي ذات الثقافة المحدودة جدا، إذ لم يكن لها حظ في التعليم سوى فك الخط، تتمرد على قواعد الرقص السائدة وما تفعله الراقصات، وفكرت في أن ترتفع بالرقص إلى مرتبة راقية. كانت تعتبر الرقص مرتبة ومكانة، ومرة ضايقها أحد المعجبين في كازينو بديعة مصابني فصفعته صفعة مدوية على وجهه، فأصيب من حوله بالذهول، وقالوا لها: «الا تعرفين من هذا؟ إنه أمير من الأسرة المالكة»، فردت عليهم بتحد: «وأنا راقصة من الأسرة الراقصة».. هكذا تساوت الرؤوس وفقا لنظريتها!
وانتقلت أخبار هذه الواقعة من كازينو بديعة مصابني إلى أنحاء مصر، فاحترم الناس هذه الراقصة.
أصل رقصة الكاريوكا
رقصة الكاريوكا سبب شهرتها واسمها الفني، فكانت هي التي أخذتها من الفيلم الأميركي «داون تويو» وتؤدي فيه رقصة «كاريو كاس»، نسبة إلى نهر يمر في مدينة ريد، فأخذت موسيقيا كي يكتب لها نوتة على هذه الرقصة. واستنزفها الرجل إذ شاهد الفيلم عشر مرات، وأكل وشرب طوال عشرة أيام على نفقتها، ويومها كانت راقصة كادحة مغمورة في فرقة بديعة مصابني، وإن توقفت عندها أعين العمد والاثرياء، وأصبح الناس يعرفونها بالراقصة التي قدمت رقصة الكاريوكا، فاتخذت منها اسما لها.. تحية كاريوكا.
وظلت تحية كاريوكا ترقص إلى أن أصبحت الراقصة الأولى في مصر، وكانت ترقص بمزاجها، وتؤدي كما لو كانت ترقص لنفسها، لذلك لم تكن تلبي طلبات أصدقائها في الحفلات الخاصة.
وصلت بالرقص إلى أوج شهرتها، وعندما قررت اعتزاله لم تنحسر عنها الأضواء، بل اقتحمت ميادين أخرى نجحت فيها بالدرجة نفسها.
أم فاتن حمامةعاصرت تحية كاريوكا منذ بدايتها في فيلم «بنت الهوى» عام 1953، كانت الدمعة الحزينة في هذه الكوميديا. كانت البطولة جماعية، وحقق الفيلم نجاحا كبيرا، بالرغم من أنه أثر بالسلب على جيل بأكمله، ولمع فيه الممثلون الذين أصبحوا لاحقا نجوما للكوميديا.. ماري منيب ويوسف وهبي والسيد بدير.
لكن الدور الوحيد الذي لم يكن كوميديا، بل اقرب إلى التراجيديا، هو دور الراقصة اللعوب المتطلعة إلى الثراء الذي أدته تحية كاريوكا. يومها كانت خائفة من الوقوف أمام يوسف وهبي، لأنه كان يثير الرهبة بمظهره القاسي. ولكن بعد أيام قليلة أطمأنت تماما، وراحت تؤدي دور والدة فاتن حمامة التي كانت تعيش في أوروبا، ثم تعود إلى مصر، ويحبها ابن يوسف وهبي (كمال حسين) ثم يكتشف يوم حفل الخطوبة أن أمها راقصة.
وعلى الخط نفسه، وبقدر نجاحها على شاشة السينما كانت تحية مرتبطة بعقود كثيرة للعمل في الملاهي الليلية خارج مصر، فلم تكن عندها فكرة التفرغ للسينما نهائيا، لأن السفر كان يستهويها اكثر منذ صغرها...
و كانت تحية كاريوكا اذا لم تسافر مرتين أو ثلاثة في السنة، فإنها تتعب جدا، حتى أن أمها أطلقت عليها لقب «ابن بطوطة»، وكانت دائما تقول: «ابن بطوطة سافر، ابن بطوطة وصل»، وكانت كثيرا ما إن تعود وتفتح حقائبها حتى تستعد لسفر جديد.
و للحوار بقية و اسرار اخري من حياة نجمة الرقص الشرقي و الفنانة الكبيرة الراحلة تحية كاريوكا